متانة العلاقات لا تتأثر جذرياً باختلاف الإدارات
العلاقات السعودية-الأمريكية من أمتن الشراكات التقليدية في الواقع السياسي الدولي منذ منتصف القرن الماضي. وكان ذلك هو الحال في ظل كل من الإدارات الجمهورية والديمقراطية المتعاقبة، إذ لم يؤثر اختلاف الإدارات في الصورة الكبيرة لهذه الشراكة. وكذلك هو الحال حالياً إذ لا يمكن أن تتأثر في إجمالها الشراكة القائمة على مصالح ومخاوف مشتركة (تهديدات الإرهاب الدولي والهيمنة الإيرانية واستقرار سوق النفط) إذا جاء المرشح الديمقراطي جو بايدن إلى الحكم. ولكن ثمة ملفات تثير توتر بين الجانبين وهنا يبرز دور تغير الإدارات. يزداد هذا الاختلاف بالأخص في الأوقات الاستثنائية كالتي تمر بها المنطقة حالياً. من أكثر الأوقات الاستثنائية التي برز فيها الاختلاف في مستوى جودة العلاقات الناتج عن اختلاف الإدارات هي الفترة التي تلت 2011 تحت قيادة الديمقراطي باراك أوباما، حين اتخذت أمريكا نهجاً في سياساتها الخارجية في الشرق الأوسط أثر على أكثر من ملف وأربك نسبياً العلاقة مع السعودية. أولاً، التقارب مع طهران والموافقة على الاتفاق النووي (JCPOA) لعام 2015، والتي لم يكن لدول مجلس التعاون الخليجي أي رأي فيها. ثانياً، تعامل أوباما مع الأزمة السورية ورفضه التدخل عسكرياً هناك، بينما تدخل في ليبيا. ثالثاً، الإدانات الأمريكية لحكومتي البحرين ومصر على أسس حقوق الإنسان في فترة الثورات. رابعاً، الترحيب بالسياسيين من فصيل الإسلام السياسي على مستوى المنطقة كما حدث في مصر وتونس مثلاً.
ما هي الاستثنائية الحالية؟
وحالياً أيضاً هو وقت استثنائي يتطلب الانتباه إلى توتر نسبي وشيك نتيجة اختلاف الإدارات. هذه الاستثنائية والسيولة الهائلة للموقف الحالي بالنسبة للسعودية بسبب: دعم صيني-روسي لإيران، وتحركات تركية متزايدة في المنطقة، وتصعيد من جانب قطر، وتوتر مع باكستان (داعم عسكري تقليدي)، وتوجه عربي نحو التطبيع مع إسرائيل. تزداد الأزمة تعقيدًا بإدراك أن المرشح هو جو بايدن الذي شغل منصب نائب الرئيس في إدارة أوباما. إذا مثلت إدارة بايدن العودة إلى سياسات أوباما التي سببت إشكالية للأسباب السالف ذكرها، يجب ألا تتعامل السعودية مع الأمر كشيء إجرائي كما هو الحال في الأوقات العادية. أيضاً ما يزيد الاحتمال أن يكون هناك تشابه كبير بين إدارة بايدن وأوباما هو أن مستشاري حملة بايدن في السياسة الخارجية كانوا معظمهم أيضاً في إدارة أوباما. مثلاً، شغل جيك سوليفان منصب نائب مساعد الرئيس باراك أوباما ومدير تخطيط السياسات في وزارة الخارجية. وشغل نيكولاس بيرنز مناصب رفيعة المستوى في السياسة الخارجية في عهد الرئيسين جورج دبليو بوش وبيل كلينتون. وكان توني بلينكين نائب وزير الخارجية ونائب مستشار الأمن القومي لأوباما.
وعلى الرغم من أن السياسة الخارجية لا تعتبر القضية الأكبر خلال هذه الفترة إذ تتصدر قضايا الاقتصاد والعدالة الاجتماعية والاحتجاجات ضد العنصرية ووحشية الشرطة اهتمامات الولايات المتحدة في الوقت الحالي، ولكن يمكن استنباط سياسة بايدن الوشيكة ليس فقط من تصريحاته وإنما أيضاً لكونه عمل سناتور منذ فترة طويلة وكان الرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية.
سيناريو 1: فوز بايدن
- ملف إيران
سيتجه بايدن فوراً إلى إنقاذ ما تبقى من الاتفاق النووي فهذا أهم إنجازات رئاسة أوباما التي كان جزء منها. وربما سيتجه إلى رفع العقوبات عن إيران قبل المفاوضات. وبالفعل كان دعا بايدن إلى تخفيف العقوبات المفروضة على طهران في الوقت الذي تتعامل فيه إيران مع فيروس كورونا. فهو يرى أنه مهما كانت الخلافات مع الحكومة الإيرانية، يجب ألا يعاقب الشعب الإيراني.
ولكن محاولات التقارب لن تكون بالسهولة الكبيرة. فلا يمكن لبايدن إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء إلى الوقت الذي حكم فيه أوباما، فالظروف الآن مختلفة حيث نتج عن سياسات ترامب اتجاه إيران لتمكين أكثر العناصر تشددًا في الحكومة في طهران وإقصاء للإصلاحيين حتى من البرلمان. مما عزز رواياتهم عن كون أمريكا منافقة وعدوانية ومضللة وغير جديرة بالثقة. لن تكون إدارة بايدن قادرة على عكس نتائج حملة ترامب لـ “الضغط الأقصى” التي غيرت المشهد السياسي الإيراني بطرق ستجعل الدبلوماسية أكثر صعوبة في المستقبل. وربما هذا سيجعل إدارة بايدن تلجأ إلى وساطة فرنسية كون فرنسا تريد أن تلعب دوراً كبيراً في المنطقة ولها علاقات مع إيران يصفها ترامب بالاسترضائية.
- ملف الخليج والسعودية
خلال فترة رئاسة ترامب، أدت بعض القضايا (اليمن، خاشقجي، مؤخراً الجبري) إلى زيادة التوتر بين الديمقراطيين والسعودية. واتهم بايدن ترامب بأنه “لين” مع المملكة. تعهد بايدن بإنهاء الدعم الأمريكي للتحالف الذي تقوده السعودية في اليمن ووقف بيع الأسلحة. ولكن ربما الأزمة الاقتصادية التي أجبرت بريطانيا على معاودة بيع السلاح للسعودية كذلك تجبر أمريكا على ذلك خصوصاً وأن بيع السلاح للسعودية وقتها سيكون له مكسب استراتيجي أيضاً وهو موازنة إيران بعد رفع حظر بيع السلاح لها. وبالنسبة للعراق فبايدن من المرجح أنه سيزيد التواجد العسكري الأمريكي هناك لمكافحة الإرهاب. هذا مريح للسعودية لا شك لأنه سيقلل من خطورة النفوذ الإيراني في بلد حدودي ذي أهمية استراتيجية كبيرة كالعراق. بايدن لا يشارك ترامب نظرته أن التواجد العسكري خارج حدود أمريكا أمر غير مجدي، ويدرك الأهمية الاستراتيجية للتواجد العسكري في المنطقة، كما يدرك أن روسيا استغلت فترة حكم ترامب وسياسته الانعزالية للتواجد بصورة أكبر في الشرق الأوسط.
- ملف إسرائيل
بايدن يرفض ضم إسرائيل للضفة الغربية. ومن المتوقع أن يعيد التعامل مع الفلسطينيين، ويستأنف المساعدة للسلطة الفلسطينية. لكن من غير المرجح أن يتراجع عن اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل أو يعيد نقل السفارة إلى تل أبيب. بايدن ديمقراطي مؤيد لإسرائيل، لكنه لا يتمتع بالعلاقة الوثيقة والشخصية مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو التي يتمتع بها ترامب. ولعل الاتفاق التاريخي بين الإمارات وإسرائيل الذي يستوجب إلغاء ضم الضفة الغربية هو أيضاً خطوة احترازية اخذتها إسرائيل التي تعلم أن بايدن سوف لن يقبل باتفاق السلام الأحادي الذي رعاه ترامب. إسرائيل لا تريد خلاف جوهري كهذا مع رئيس مرتقب وكذلك رأت في تطبيع العلاقات مع الإمارات أمراً إيجابياً يمكن مراضاة اليمين الإسرائيلي به كبديل لضم الضفة الغربية.
- ملف تركيا
في ديسمبر من العام الماضي، بعد شهرين من العدوان التركي علي شمال شرق سوريا، وصف بايدن الرئيس التركي رجب طيب اوردوغان بـ “المستبد” وانتقد بايدن أيضاً إعادة ترامب تمركز القوات الأمريكية في سوريا في أكتوبر 2019. ومن المرجح أن بايدن سوف يعيد تمركز القوات الأمريكية إلى داخل شمال شرق سوريا ويمد يد العون إلى الأكراد هناك لما لهم من أهمية استراتيجية في هزيمة داعش وكذلك لموازنة الوجود العسكري الروسي هناك. كذلك من المتوقع أن تتوتر العلاقات مع تركيا على خلفية الخلافات المتزايدة بين تركيا والاتحاد الأوروبي وبالأخص فرنسا واليونان. وبما أن بايدن ستكون من أهم أولوياته ترميم العلاقة مع حلفاء الناتو فسيأخذ صف الاتحاد الأوروبي.
سيناريو 2: فوز ترامب – من المرجح أن يستمر في سياساته مع بعض التغييرات البسيطة، أهمها:
- انعزالية أكثر وإعطاء الأولوية للاقتصاد
سيتمادى في سياسته الانعزالية ويبقي على الوجود العسكري في المنطقة محدوداً كما هو أو حتى يقلله أكثر. والتركيز في سياسته الخارجية سيكون على الصين وآسيا بعد جولة التصعيد الأخيرة بين أمريكا والصين فيما يخص جنوب بحر الصين وهونج كونج وحرب التجارة وشركة هاواوي. وفيما يخص السعودية فمن المرجح أن العلاقات ستتحسن أكثر نتيجة التعاون الاقتصادي الذي سيسعى له ترامب بعد الأزمة الاقتصادية التي تمر بها أمريكا بسبب تفشي كورونا. كذلك ستلعب السعودية دوراً بارزاً في تسهيل التطبيع بين الخليج وإسرائيل.
- تغيير النظام في إيران
في الفترة الماضية، كانت هناك بشكل شبه يومي حرائق وانفجارات ومظاهرات في إيران. لم يكن مفهوم ما وراء هذه الأحداث أو من. تقارير كثيرة أشارت إلى إمكانية أن تكون هذه الحرائق والانفجارات هجمات سيبرانية بتنسيق أمريكي-إسرائيلي على إيران بهدف كشف ضعفها والتسبب في حالة ارتباك وربما إعطاء المساحة لقلب نظام الحكم. وبناء عليه، وبعد اغتيال قائد الحرس الثوري، أصبح التصعيد بين أمريكا وإيران هو الواقع الإقليمي وإذا لم تتخلى إيران عن شرط رفع العقوبات قبل المفاوضات فمن المرجح ان أمريكا ستسعى لتغيير النظام هناك.