مع مطلع العام 2020، كان لدى العديد منا الكثير من التطلعات والآمال سواء على الصعيد الشخصي أو العملي. ثم أتت أزمة كوفيد-19 ووضعت علينا عبئاً نفسياً ضخماً من نوع جديد.
يأتي هذا العبء نتيجة آثار اقتصادية وتغيرات في أسلوب حياتنا اليومية وإحباطات ووحدة وعزلة في المنزل وحظر حركة وخوف من الإصابة سواء لشخصنا أو للمقربين منا. ومثل أي أزمة أو موقف سلبي، لابد أن يكون له نتائج نفسية كمحاولة بيولوجية من أجسادنا للتعامل مع ظروف غير مستحبة، سواء على هيئة دفاع أو ردع أو تأقلم مع الواقع مع اختلاف هذا من شخص لآخر، فالبعض يصيبه حالة من النكران والبعض يصيبه الاكتئاب والبعض يحاول تغيير الواقع لندخل جميعاً في المراحل النفسية المختلفة التي تأتي مع أي تغيير. يبحث هذا المقال التغيرات النفسية والمشاكل التي قد تصيب البعض نتيجة الظروف الاستثنائية التي نمر بها.
الجديد مع كوفيد-19 هو عدم وجود سبب واضح للأزمة، فبينما كان لدينا في الأزمات السابقة “عدو” أو “متسبب” أو “مصدر” واضح يمكننا إيقاع اللوم عليه مثل الفساد أو التطرف الفكري أو القوى الأجنبية أو الطمع أو الصراعات السياسية، تأتي أزمة الكوفيد-19 لتظهر لنا ضعفنا مع عدم وجود مصدر أو متسبب واضح للأزمة. وبالتالي فالأزمة الحالية جديدة في كونها أزمة عفوية إلى حد كبير، كما أنها جديدة في قاعدة انتشارها ووصولها للجميع بدون الارتباط ببلد أو منطقة أو ثقافة ما. ولذلك فآثارها النفسية علينا أيضاً جديدة إلى حدٍ كبير وقد نغفل عن مظاهر تلك الآثار النفسية أو نفشل في إدراك عواقبها. ولهذا فقد يكون من الحكمة التعريف أولاً ببعض وسائل الدفاع التي يقوم بها العقل الباطن للدفاع عن نفسه في مواجهة أي أزمة أو خطر:
- الإنكار والتبرير (Denial & Rationalization): في العادة أول وأسهل خط دفاع نفسي هو إنكار الأزمة من أصلها، فنرى البعض يحاولون إنكار وجود الفيروس وزعم أن مثله مثل الأنفلونزا الموسمية العادية أو مثل سائر الأمراض التي قد تصيبنا، أو أنها لا يوجد منها خطورة لكون نسب الوفيات قليلة مقارنة بأمراض أخرى. كما يوجد خط دفاع آخر وهو التبرير، والذي ينبع من عدم ارتياحنا نفسياً لعدم وجود متسبب واضح للأزمة، فنجد من يحاول أن يبرر أنها مصطنعة من الإعلام أو من الولايات المتحدة أو الصين أو روسيا أو أنها تصيب الدول التي لديها تكنولوجيا ال5G فقط. الإنكار والتبرير هم أولى الخطوات التي يخطوها العقل البشري في مواجهة أي تغيير أو خطر.
- لوم الآخرين: لكل أزمة لابد من شخص أو طائفة يقع اللوم عليها فيكون هو “مصدر أو سبب الخطر”، وهنا تبدأ رحلة البحث عمن نلقي عليه اللوم، فمرة تكون الصين ومرة إيطاليا لعدم تتبع الإجراءات والاستخفاف بالأزمة، ومرة الحكومة، ومرة الآخرين الذين لا يبالون بالمرض. إلقاء اللوم على كل من حولنا هي وسيلة دفاع تحاول التعامل مع الحقيقة الثقيلة أننا في الواقع المسؤولون أولاً وأخيراً عن الوقاية الشخيصة.
- مشكلة الراكب المجاني أو الراكب الحر (Free-Rider Problem): وهي في الأصل مصطلح اقتصادي ولكن للمصطلح استخدامات متعددة في العلوم الاجتماعية، ويشير المصطلح إلى وجود “راكب مجاني” يحظى بامتيازات بينما يتحمل الآخرون تكلفة تلك الامتيازات مما يتسبب في سخط وإحباط. مثلاً من المحبط أن يلتزم الشخص بكل التدابير الوقائية وحظر الحركة والتجوال، ثم يرى أن البعض الآخر يستفيد من التزامه بشكل “مجاني” ويتحرك بحرية ودون مبالاة وبالتالي يزيد من انتشار المرض، وهي مشكلة تؤدي إلى إحباط الملتزمين وتدفعهم إلى عدم الاكتراث ثم في النهاية تحولهم أيضاً إلى ركاب بالمجان.
يجدر التوضيح أن ردود الفعل النفسية تلك طبيعية جداً وهي موجودة لحمايتنا من العبء النفسي لأي أخطار أو أزمات. كما أنها لا تصيبنا فقط كمصريين ولكن تصيب شعوب العالم بأجمعه، ونلاحظ هنا العديد من أوجه التشابه تتخطى الحدود والثقافات والطبقات والمستويات العلمية. ولكن من المهم إدراك تلك الأعراض النفسية وفهم أسبابها وأشكالها لكي لا ننصاع وراءها فنتحول لجزء من المشكلة بدلاً من أن نكون جزءًا من الحل. فالأزمة الراهنة لا تتعلق فقط بوباء فيروسي ولكن أيضاً بوباء معلومات مغلوطة ونظريات مؤامرة كاذبة ننحاز لتصديقها ونشرها كشكل من أشكال تعاملنا النفسي مع الأزمة، ولكن هذا يؤدي بدوره إلى تفاقم الأزمة ويجعل لها كلفة حقيقية على حياة البشر.
“الإنفوديميك “
في 15 من فبراير من هذا العام، صرح رئيس منظمة الصحة الدولية أن المنظمة لا تحارب فقط وباء الكوفيد-19 بل تحارب من جبهة أخرى الإنفوديميك (Infodemic). هذا التصريح جاء بعد إطلاق منصة المعلومات الخاصة بالمنظمة لنشر معلومات عن وباء الكوفيد-19 أسمتها EPI-WIN وكان من المقرر أن يكون دورها هو نشر رسائل توعوية لفئات مستهدفة والتعويل على الأبواق الإعلامية لتوزيع المعلومات على الفئات المعرضة للخطر للتعريف بوباء الكوفيد-19 وسبل الوقاية. الإنفوديميك هو وباء المعلومات المتمثل في كثرة المعلومات بالأخص المغلوطة الذي يزيد من الطين بلة ويجعل حل المشكلة أصعب. فمثلما ينتشر الوباء الفيروسي بين حامليه بسرعة كبيرة، تنتشر أيضاً المعلومات المغلوطة التي تعرض أرواح الناس للخطر بشكل أسرع. فنرى جدال حول وجود الفيروس من عدمه، أو حول كونه مصنع من البشر أم طبيعي، أو حول كونه هاجس إعلامي، أو عما إذا كان سببه تكنولوجيا الـ 5G، أو أنه من صنع الملياردير بيل جيتس لتصنيع لقاح يتحكم في البشر وأفكارهم. في تلك الأثناء يستمر الفيروس في الانتشار بين فرائسه المشككين وغير المشككين في وجوده، ويستمر في الفتك بالمصابين حتى وصلنا إلى أكثر من 365 ألف حالة وفاة و6 مليون إصابة حول العالم في وقت كتابة هذا المقال.
“محدش بيموت من الجوع لكن الفيروس قاتل”
كانت هذه كلمات مؤثرة للشاب المصري محمد نادي الذي توفي إثر اصابته بفيروس كوفيد-19. محمد وهو شاب رياضي يبلغ من العمر 30 عاماً كان ممن استهتروا بوجود الفيروس وربما دفعه هذا التشكيك إلى عدم اتخاذ التدابير الاحترازية اللازمة فأصيب بالمرض ولم ينج منه بل ولحقه والده بعده بأسبوع نتيجة إصابته هو الآخر. يجب أن ننظر لهذه القصة الأليمة والمؤسفة كتحذير لنتبين الخطر الفعلي للوضع العالمي للدول التي تواجه فيروس الكوفيد-19، وما بين انتشار المعلومات المغلوطة والمشككة في كل شيء حتى يفوت الأوان. وعلى الرغم من ذلك لا تزال فئة عريضة من الشعب تشكك من وجود الفيروس أو تقارنه عن عدم علم بالأنفلونزا أو تشكك في اللقاح قبل ظهوره أصلاً أو تلقي بكامل المسؤولية على فئة أو مصدر ما، في محاولة للتخفيف من هول الوباء أو إثبات القوة النفسية وعدم الخوف. وهناك العديد من الحالات المشابهة لمحمد نادي في بريطانيا والولايات المتحدة وفرنسا وغيرها من الدول التي تواجه هذا التحدي.
التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) هو الاسم العلمي في علم النفس لما يجتاح مصر وقطاع كبير من العالم. في عام 1957 قدم العالم ليون فيستنغر نظرية التنافر المعرفي التي تتلخص في الاضطرابات النفسية التي تتزاحم داخل الفرد عندما يفقد التوازن بين معتقداته وسلوكياته، محاولاً التوفيق بين أفكار أو سلوكيات أو اتجاهات متضادة، فيتولد لديه شعور النفور من الاختلاف والتناقض فيحاول الابتعاد عن دائرة الصراع التي تسبب له الضيق النفسي. فتكون النتيجة الطبيعية أن يرفض الفرد كل معلومة جديدة تخالف معتقداته المسبقة والتي توفر له الراحة النفسية في تقبلها، لتكون كل مناقشاته مع المعلومات الجديدة هي مناقشات غير منطقية ولا تتسم بالحيادية، لأن هدفها الأصلي هو تأكيد قناعته أنه على صواب، ليظل محاصر في المنطقة النفسية الآمنة التي بها أقل قدر من الاضطرابات.
تظهر أعراض التنافر المعرفي بشكل جلي خلال الأزمات وخاصة تلك التي تشبه أزمة الكوفيد-19 مع وجود العديد من المعلومات التي لا يسهل استيعابها، وأيضاً نتيجة حظر الحركة الذي أتاح للعديد منا الفرصة لاختبار أسلوب حياة مختلف عما كنا نعتاد عليه سلفاً، كما أتاح الوقت للتفكير في أنماط الحياة التي كانت من قبل سريعة فلم يستساغ هذا الأمر لكل الناس على حد سواء.
نجد هنا أن جزءًا كبيراً ممن يتأثرون بالتنافر المعرفي هم من الطبقة المتمتعة بمستوى تعليمي جيد، وذلك لأن درجة التنافر المعرفي تزداد كلما زادت قناعة الفرد بأفكاره ودرجة حدة تفكيره، مما يزيدها خطورة على الفرد من حيث حصره لنفسه في إطار أفكاره المسبقة دون فتح المجال لأفكار ومعلومات جديدة مهما كانت علمية وبغض النظر عن الجهة المصدرة للمعلومة.
يصاحب هذا التنافر المعرفي أيضاً ظاهرة نفسية وهي انتشار أو توزيع المسؤولية (Diffusion of Responsibility) وهي والتي تظهر بوضوح كلما ازداد عدد الأفراد في المجموعة المتأثرة بجائحة ما، فكلما ازداد حجم المجموعة كلما ازداد انتشار المسؤولية وإلقاء اللوم على الآخرين.
“الدروس المستفادة”
من أهم الدروس التي نواجهها حالياً مع أزمة كوفيد-19 هو أهمية العلم والأساليب العلمية، ومحاولة التغلب على الجانب النفسي الذي يفضل التفسيرات السهلة (كنظريات المؤامرة) أو إلقاء اللوم على قطاع معين كالسبب الأوحد في الأزمة، وأهمية التكاتف والوقوف جنباً إلى جنب مع أبناء بلدنا والشعوب الأخرى. التعاون، على صعوبته، هو السبيل لعبور الأزمة بأقل خسائر، فهذا ليس الوقت للتشكيك في المصادر الرسمية أو العلمية الصحيحة خاصة أننا بصدد وباء لا زلنا لا نعلم عنه الكثير، مما يتيح أرضاً خصبة للخيال والمعلومات غير الدقيقة. معظمنا لا يدرك أساليب البحث العلمي والتجارب المختلفة والنتائج المتضاربة التي تخرج من بعض هذه التجارب، فهي عملية مرهقة تدوم لفترات طويلة لحين التوصل لحل للمشكلة المطروحة سواء على هيئة مصل ولقاح يقي من المرض أو بروتوكول علاج ناجح في القضاء على المرض بأقل الخسائر.