انفجر مرفأ بيروت بالكامل في الثلاثاء الـ 4 أغسطس/آب 2020، بعد اندلاع حريق في المخزن بالمرفأ. وقد امتد أثر صدى الانفجار على العاصمة بيروت بأكملها وصولاً إلى أحياء لبنان كافة، كما سمعت صداه مدينة قبرص، وسجلته محطات رصد الزلزال الأردنية وترك حفرة بعمق 43 متراً. الانفجار تتراوح تقديرات العائد المتفجر له ما بين ألف وألفين طن من مادة الTNT أي ما يزيد بعشرات الأضعاف عن قنبلة أم القنابل (MOAB) وهي أعتى القنابل الغير نووية في الترسانة الامريكية بل وتزيد قوته عن بعض القنابل النووية التكتيكية الموجودة مما يجعله من أكبر الانفجارات الغير نووية في التاريخ. ونتج الانفجار الذي لم يترك منزل أو مبنى في بيروت على وضعه، عن انفجار شُحنة سفينة روسوس التي كانت قد صادرتها الحكومة اللبنانية بعد تخلي مالكي السفينة عنها وعن الشحنة بأكملها، ومن ثم تفريغ الشحنة التي كانت تحتوي على نترات الأمونيوم في أحد مستودعات المرفأ. وعليه، في إيجاز نستعرض جزء من الآلام التي لحقت بآمال اللبنانيون في الحياة رغم أنف الإخفاقات المتوالية لحكامها وتفشي الفساد بين كل من الطبقة الحاكمة ومواليها، وحصر المشكلة اللبنانية في الطائفية، وعدم تواجد تلك الطبقة لإخماد حرائق الغابات في أكتوبر الماضي، تبعها أزمة الخبز التي تسببت فيها أزمة الدولار، ومن ثم بدأت الأصوات المعارضة في الارتفاع من خلال مظاهرات لم تعود بأي مردود إيجابي، بل قامت الطبقة الحاكمة بالسيطرة على النظام المصرفي ومدخرات اللبنانيين، وسقطت العملة يوماً تلو الأخر، وتراجع حجم الاستثمارات مع تراجع الثقة في البيئة الاستثمارية اللبنانية، وارتفعت نسبة البطالة والتضخم، وسيطرت السوق السوداء على الموارد وعلى الدولار وعلى حياة اللبنانيون. وفي تبع هذا التدهور، غياب خطط النظام لمواجهة أضرار جائحة كوفيد-19 وتوقف شبه كامل للسياحة، وصولاً لانفجار المرفأ الذي أنهى على أخر ما تبقى من العاصمة من رمق، واستنفد في اليوم الخامس من حدوثه كافة مواد معدات الطوارئ ببيروت، وتسبب في الأذى النفسي والجسدي لأهلها وسكانها ممن لم ينهي الفساد حياتهم في هذا الحادث المروع، الذي أكلت نيرانه مخازن احتياطات القمح مثلما أحرقت قلوبهم… ليصبح كل من المدينة وسكانها عراة إلا من أصواتهم، في مواجهة بطش الحياة وتفشي الفساد.
- الدولة الفاشلة “Failed State” في مواجهة اخفاقاتها
أخفق النظام اللبناني في توفير أدنى احتياجات اللبنانيين على مدار أعوام، من كهرباء وماء ونظام صحي وتعليمي على حد سواء، كما ازدادت الفجوات الاجتماعية بشكل مروع، واستغلت الطبقة الحاكمة تغذيتها للأزمات الطائفية في لبنان لخلق صراع داخلي بين مختلف طوائف الشعب، لتحيد بنظر العامة عن تقصير الطبقة الحاكمة في توفير الاحتياجات الأساسية للحياة، ونهب موارد الشعب في منظومة تزاوج فيها كل من الفساد والمحسوبية، مكللة بمرحلة من الفراغ السياسي تارة وكانت تلك الأخيرة بعد إجبار حكومة سعد الحريري على الاستقالة الأخيرة في أكتوبر 2019، واستبدالها بحكومة حسان دياب منذ فبراير 2020، أو التهديد بخطر الفراغ السياسي تارة أخرة، مما أدى إلى انهيار الاقتصاد اللبناني بشكل شبه كامل في الأشهر الأخيرة الماضية. وتعثرت لبنان في مارس الماضي للمرة الأولى في تاريخها عن تسديد مستحقات سندات اليوروبوندز. وفي ذات الوقت، اصحبت كافة الدول والمؤسسات التي ترغب في مساندة الشعب اللبناني غير قادرة على اتخاذ خطوات في هذا الطريق تفادياً لضياع تلك المساعدات هباء.
وأتت المصائب في لبنان واحدة تلو الأخرى، وكان فشل الدولة قد ظهر بشكل جلي منذ أزمة النفايات، تلاها أزمة حرائق الغابات وتأخر الدولة في الاستجابة له، ومن ثم استخدام العنف الأمني في مواجهة كافة اشكال الحراك الشعبي، كأن الحرب شخصية بين الطبقة الحاكمة التي تمتلك الموارد كافة والعامة… الشعب. ليكلل هذا الفشل بانفجار المرفأ الذي يتم تفسيره بشكل كامل على كونه نتيجة لفشل المنظومة الفاسدة في حماية مواطنين لبنان وسكانها.
ثم أعلن مجلس الوزراء اللبناني حالة طوارئ جزئية في 5 أغسطس في بيروت فقط على ضوء انفجار المرفأ في مرسوم لم يتم نشره حتى اليوم[1]، بل ويشوب الأجزاء التي تم الإعلان عنها منه العديد من الشوائب القانونية. وأعطى المجلس من خلال إعلانه عن حالة الطوارئ الجيش سلطة أوسع في التحكم في زمام الأمور الداخلية في الوقت الذي اثبتت فيه مؤسسات الدولة فشلها الكامل، كما قرر المجلس من السلطة العسكرية العليا فرض الإقامة الجبرية على كل من أدار شؤون تخزين نيترات الأمونيوم (2750 طن) وحراستها وضبط كافة الملفات المتعلقة بالشحنة منذ 2014 حتى تاريخ الانفجار. لم يتم الإعلان بعد بشكل عن حجم الخسائر البشرية وضحايا هذا الانفجار الذي يعد أقوى انفجار شهدته المدن العربية، وكان المرفأ يتكون من طوابق مختلفة تضمّ مبنى تحت الأرض لإدارتها الإهراءات وغرفة عمليات تابعة لها يتم الوصول لها عبر نفق يمتد من المدخل الشرقي للإهراءات باتجاه الغرب، تحتوي على أنظمة تشغيل المصاعد داخل الإهراءات وآلية سحب الحبوب من البواخر.
وبدأ الاستقالات تأتي تباعاً من وزراء حكومة حسان دياب الذي ظل متمسكاً بالبقاء بحكومته ليوم الاثنين الـ 10 من أغسطس، أي بعد أسبوع كامل من الحادث المروع، كما استقال العديد من أعضاء مجلس النواب وهو ما يحدث بعد اندلاع كل أزمة في لبنان، بسبب الضغط الكبير الذي يفرضه الشعب اللبناني. وبالتوازي بدأت المطالبات الشعبية التي وصلت لوزارة الداخلية، ووزارة المالية ووزارة الطاقة ووزارة البيئة كما حاولوا الوصول لمبنى البرلمان، مطالبين برحيل ميشال عون واستقالة ومحاكمة كافة المسؤولين، حيث حمل المتظاهرون مشانق رمزية في تحول مهم ومرعب للمشهد اللبناني الداخلي في حال عدم اتخاذ تلك المطالب على محمل الجد، غير إن صور بعض المشاركين في المظاهرات ممن تم القبض عليهم بدأت تُنشر في مشهد مثير للرأي العام الدولي ومشيراً لتوجه الحكومة في الرد على تلك المظاهرات في الوقت الحالي التي استخدمت الغاز المسيل للدموع لردع المتظاهرين سُمع أصوات إطلاق نار من ساحة الشهداء المركزية في الـ 8 من أغسطس، مما أدى لوقوع إصابات من المتظاهرين وقُتل عنصر من قوات الأمن بعد إن تعرض للضرب من قبل المتظاهرين، كما تدخل الجيش ميدانياً بعد إن طالبت قيادته في بيان عبر حسابها الرسمي على موقع تويتر، ضرورة التزام المحتجين بسلمية التعبير والابتعاد عن قطع الطرق، والتعدي على الأملاك العامة والخاصة، كما اضافت القيادة تفهمها لما وصفته بعمق الوجع والألم، الذي يعتصر قلوب اللبنانيين.
ويعتبر تدخل الجيش اللبناني ومن قبله الشرطة في المشهد السياسي في هذه اللحظة أمر غاية الخطورة، خاصة مع اختلاف النظام اللبناني عن غيره من الأنظمة العربية من الجانب الأمني، ومع وجود حزب الله المسلح بشكل قوي والذي يلعب دور سياسي إقليمي مرفوض من المجتمع الدولي. لذلك كان من الأفضل أن يظل الجيش منعزلاً عن المشهد السياسي في اللحظة الراهنة، والاحتفاظ بطاقاته للردع الداخلي لاحتمالية تأزم الوضع في حال حول أي من أطراف الصراع السياسي الأزمة إلى أزمة طائفية عنيفة.
2. الدور الإنساني الدولي الحالي تجاه بيروت
كان قد أعلن الصندوق الدولي في الأسابيع الماضية عن رغبة العديد من الدول على مساندة لبنان، إلا إن الجميع يلتزم الحذر الشديد بشأن ضخ مزيد من المساعدات في لبنان من خلال الحكومة التي لم تتخذ خطوات جادة في محاربة الفساد ومواجهة المحسوبية، وتعثر دعم صندوق النقد للبنان وتوقفت المفاوضات بعد انعقاد 16 جلسة، وكان قد طالب الصندوق الحكومة باتخاذ تدابير سريعة بينها تحرير سعر الصرف والتدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. وذلك بعد أن أصبحت كافة المطالب التي وضعها المجتمع الدولي بمثابة رهن المساعدات أمر صعب المنال في عدم وجود تعاون ولو حتى صوري من الطبقة الحاكمة، في تأكيد منهم على إن مصالحهم السياسية أهم من مصلحة لبنان واللبنانيين. فظلت النفقات العامة العالية وعدم عدالة المنظومة الضريبية وسائل تزيد من تأزم الموقف.
وبعد الانفجار مباشرة، بادرت العديد من الدول العربية والأجنبية بإعلان نيتها على تقديم المساعدات ومساندة الشعب اللبناني، كما أرسلت بعض الدول طائرات محملة بالأدوية والأغذية، منها مساعدات من: الولايات المتحدة الأمريكية، والجزائر ومصر وتونس والسعودية والإمارات وقطر واليونان وقبرص وبولندا وإيران وفرنسا وسويسرا وروسيا والعراق). بينما تكفلت البعض الأخر برعاية عدد من الجرحى، أو إرسال أطباء إلى لبنان. في حين لم يكتفي الرئيس الفرنسي بالإعلان عن خطوات مشابهة، بل قام بزيارة بيروت بعد مرور أقل من 24 ساعة على الانفجار، حيث تجول في الشوارع المحيطة والمتضررة من الانفجار.
نشر البعض رفض الحكومة العديد من المساعدات الغذائية والطبية بزعم عدم وجود الحاجة لتلك المساعدات، من ضمنها؛ (1) مساعدة من منظمة أطباء بلا حدود الفرنسية، (2) ومساعدة من فريق هولندي مع كلاب مدربة للبحث عن الضحايا، (3) ومساعدة من الإمارات التي أصرت على توزيع المساعدات عبر سفارتها لتفادي ما حدث من بيع المساعدات الكويتية في الأسواق. وفي المقابل ردت الرئاسة بشكل مباشر بعدم رفضها أي من المساعدات.
وفي الـ 9 من أغسطس بعد مرور عدة أيام على هذا الانفجار المؤلم، استضافت باريس مؤتمر دولي للمانحين من أجل لبنان برعاية من الأمم المتحدة، حيث تم الإعلان فيه بشكل مباشر على أهمية إيصال المساعدات بشكل مباشر إلى الشعب اللبناني وفي إطار من الشفافية، حيث تعهد المشاركون في المؤتمر بتقديم مساعدة عاجلة تجاوزت 250 مليون يورو، منها 30 مليون يورو من جانب فرنسا. ووجه الرئيس الفرنسي كلمة لكل من تركيا وروسيا وإسرائيل لأهمية مساندة الوضع اللبناني، في رسالة غير مباشرة لضرورة البعد عن أي توتر جيوسياسيا في المنطقة مستغلاً للظرف اللبناني الحالي. لحقها في الـ 10 من أغسطس اعلان الأمم المتحدة في مؤتمر صحفي عن دورها في ارسال امدادات طبية لمساعدة المصابين نتيجة للانفجار، وارسال 9 ملايين دولار لتغطية الاحتياجات الأولوية، كما ساندت الصليب الأحمر اللبناني وتوفير المواد الغذائية.
ومن الممكن تحليل الخطوات التي اتخذتها الدول الغربية مقابل الدول العربية تجاه لبنان في هذه المحنة في محاولة لفهم التوجهات السياسية في المنطقة العربية.
إلا أنه في الوقت الراهن وفي ظل استقالة الحكومة يصبح مجلس النواب في دورة انعقاد استثنائية حتى تأليف حكومة جديدة وتنال الثقة، إلا أن الثورات العربية أتت لنا بسيناريوهات خارج الأطر العادية. لذلك من المنتظر أن تتخذ القوى الشعبية قيادة الوضع الحالي، وترشيح شخصية محايدة بعيداً عن الاختلافات الطائفية. ويمكن من خلال التحركات السياسية السابق ذكرها ملاحظة إن المشهد اللبناني الداخلي في غاية الخطورة، فيوجد إصرار من القوى الشعبية على تغيير الوضع الداخلي الفاسد ومحاسبة كافة المتهمين في وصول لبنان إلى الحالة المتأزمة الحالية، وفي المقابل، رغم إبداء القوى الدولية الرغبة في مساعدة لبنان على تخطي هذه الازمة، إلا أن هذه المساعدة تظل رهينة إشارة الموقف السياسي الداخلي. وتبقى مخاوف عدم جاهزية وقدرة القوى السياسية الثائرة -مثلما حدث في بعض الدول العربية من قبل، على طرح أسماء لشخصيات سياسية قادرة بحيادية على قيادة هذه اللحظة الفارقة، واقتلاع المنظومة الفاسدة بشكل كامل، وما يمكن أن ينتج عنه من وقوع بيروت في أزمة أكثر وطأة تترك لبنان وسط صراع إقليمي حول قيادة لبنان الحبيب.