الاتحاد الأوروبي في ظل تفشي وباء كورونا: التضامن أم المصلحة القومية؟

May 12, 2020by Heidi Salem2

تتضح الآثار الإنسانية الوخيمة بسبب تفشي فيروس كورونا في القارة الأوروبية وخاصة في إيطاليا وإسبانيا ولاسيما تأثر اقتصاد التكتل الأوروبي الأعظم ومنطقة اليورو. ولكن آفاق كورونا لم تقف عند هذا التأثير وحسب، بل امتدت لتصل إلى التشكك في استمرارية الاتحاد الأوروبي ككيان إقليمي موحد ومتجانس في سياساته ومواقفه لإدارة الأزمات. مع توالي الإخفاقات في إدارة الأزمات من قبل الاتحاد في الفترة الأخيرة وصعود تيارات قومية في بلاد عديدة داخل الاتحاد، ومنها المملكة المتحدة التي استقلت بالفعل عن الاتحاد، من المتوقع أن تعمق هذه الأزمة العالمية من الشقوق الموجودة بالفعل في التكتل والتي تؤثر على مستقبله. فيما جاءت تصريحات رؤساء بعض الدول الأوروبية تلفت الأنظار حول هذا الملف. وكان من هذه التصريحات على سبيل المثال، تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال مؤتمر صحفي عبر الهاتف يوم 26مارس، “المشروع الأوروبي معرض للخطر… التهديد الذي نواجهه هو القضاء على منطقة الشينجن” وأن تفشي فيروس كورونا يهدد الدعائم الأساسية للاتحاد الأوروبي. فمن الواضح أن هناك جوانب تعكر صفو التضامن الكلي والوحدة في اتخاذ القرارات.

أوجه الخلاف بين دول الاتحاد الأوروبي:

  • تأسيس صندوق طارئ وسندات مشتركة:

بعد اجتياح الفيروس لدول مثل إيطاليا وإسبانيا وإصابة آلاف من الناس، الأمر الذي أدى إلى اتخاذ كلا الدولتين لقرار العزل التام وإغلاق كل الأنشطة الاقتصادية وحركة الطيران، كان من الضروري أن يتم النظر إلى الآثار الاقتصادية القاسية وتداعيات تفشي الفيروس على اقتصاديات هذه الدول بل على القارة الأوروبية ككل والتي أعلنت منظمة الصحة العالمية(WHO) أنها مركز نشاط الفيروس. توقعت المفوضية الأوروبية، يوم 6 مايو، أن الاتحاد الأوروبي سينكمش بنسبة 7.4٪ في عام 2020، حيث يجلب وباء كورونا أسوأ صدمة اقتصادية منذ الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي. فيما يعاني الاتحاد الأوروبي من انخفاض في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3.5٪ في الربع الأول من 2020، كما تكبدت العملة الأوروبية (اليورو) خسائر ضخمة في إبريل الماضي حيث انخفضت إلى أدنى مستوى في شهر مقابل الدولار عند 1.07275 دولار ولأقل مستوى في ثلاثة أعوام مقابل الين عند 115.55 ين.

وفي محاولة لكبح جماح هذه التداعيات المرهقة، توصل البنك المركزي الأوروبي إلى برنامج لشراء السندات بقيمة 750 مليار يورو. ترغب دول مثل فرنسا وإسبانيا وإيطاليا أن يصدر الاتحاد الأوروبي سندات تضمنها الدول الأعضاء وتذهب الحصة الأكبر من الأموال إلى أكثر البلدان احتياجًا وتضرراً من الأزمة لدعم الإنفاق على الصحة وتقديم منح للقطاعات المتضررة ومواجهة البطالة ودفع الاستثمار. ولكن أصبح يراود الدول تساؤل ما إذا كان يجب على الصندوق أن يصدر أموال في صورة منح أو ببساطة سيقدم قروض. حيث أن إصدار سندات مشتركة من شأنه أن يخلق مسؤولية مشتركة ويجعل الاقتراض أكثر تكلفة لدول شمال أوروبا الأعضاء الأكثر ثراء، في وقت تتزايد فيه الفجوة بين السندات الألمانية والإيطالية. قادت الحكومة الهولندية، بدعم من ألمانيا وفنلندا والنمسا، رفض هذا المقترح خشية أن يثني ذلك البلدان المتضررة عن إجراء إصلاحات اقتصادية. 

ومن صور المعارضة لسندات اليورو ما اقترحه وزير المالية الهولندي Wopke Hoekstra، الذي أصر على أن صناديق الإنقاذ ستظل مصحوبة بشروط إذا تم إنفاق الأموال على الاقتصاد الأوسع بدلاً من الاستجابة للأزمة الحالية. “نحن وسنظل معارضين لسندات اليورو. نعتقد أن هذا المفهوم لن يساعد أوروبا أو هولندا على المدى الطويل “. كما دعم البرلمان الهولندي حكومته في نهجها، حيث حذر السياسيون من أن المشاعر المعادية للاتحاد الأوروبي سوف تتضخم في الدول الأعضاء الأكثر ثراءً أيضًا استنتج الناخبون أن أموالهم لا تنفق بشكل رشيد. تضامنت حكومة النمسا مع الموقف الهولندي حيث أكد وزير المالية النمساوي، غيرنوت بلوميل، أن هولندا لا تقف بمفردها. وقال عن إصدار سندات كورونا: “هذا غير وارد بالنسبة لنا”. كما أننا لم نؤيد هذه الصيغة لأن الفكرة تفتح الباب أمام تبادل الديون”.

وعلى الصعيد الآخر، يشعر الإيطاليون، بعد أزمة منطقة اليورو وقضية الهجرة، أن الاتحاد الأوروبي يتخلى عنهم مرة أخرى. ومن الواضح أن رجال الدولة يضعون عضوية الاتحاد الأوروبي على طاولة النقاش. فمنهم الشعبوي ماتيو سالفيني الذييعتبر في وضع جيد للفوز بالانتخابات البرلمانية المقبلة. ورئيس الوزراء الإيطالي، جوزيبي كونتي، الذي حذر من وجود الاتحاد الأوروبي على المحك. أما بخصوص سندات اليورو أو سندات كورونا كما يلقبها البعض، قال وزير المالية الإيطالي روبرتو جوالتيري للصحفيين: “لقد وضعنا على طاولة المجلس الأوروبي صندوقًا للتعافي يتيح إصدار ديون مشتركة. خارج الطاولة أي شرطية على استخدام تمويل آلية الاستقرار الأوروبية. الآن الأمر متروك للقادة لاتخاذ القرارات الصحيحة “. كما هدد خلال القمة التي نظمت عبر الفيديو بعدم التوقيع على الإعلان المشترك في حال لم يعتمد الاتحاد تدابير قوية “مرفقة بأدوات مالية مبتكرة وملائمة بالفعل لحرب يتوجب علينا خوضها سوياً”. وأكد على ذلك وزير المالية البرتغالي السيد ماريو سينتينو، الذي يرأس مجموعة منطقة اليورو. كما أصر، قبيل اجتماع وزراء المالية، على أن الاتحاد الأوروبي بحاجة إلى بناء شبكة أمان مالي ودعا الوزراء لإظهار “روح التوافق”. صاحبهم في الرأي رئيس الوزراء الإسباني بيدرو سانشيز وحدد مهلة أسبوعين لاتفاق أكثر واقعية، مطالبا الاتحاد الأوروبي “بتعلم دروس الماضي وعدم إخفاق المواطنين مرة أخرى” بعد أن اختلفت الدول حول سندات كورونا.

وفي بداية إبريل الماضي، اتفق وزراء مالية الاتحاد الأوروبي على خطة تدعو إلى اتخاذ تدابير جديدة تزيد قيمتها على نصف تريليون يورو لدعم اقتصاداتهم ضد تفشي فيروس كورونا. لكن تجنب الوزراء مناشدة أعضاء الاتحاد الأكثر تضررا، إيطاليا وإسبانيا، بإصدار سندات مشتركة. ومارست هولندا الضغط لتقييد كيفية استخدام أموال الإنقاذ، حيث قرر الوزراء أنه يجب أن تقتصر على البرامج المتعلقة بالصحة.

لكن بينما يرتاب دول الشمال الأعضاء الأكثر ثراءً الخوف من أن تعزف الدول المتضررة عن الالتزام بأي إجراءات اصلاح اقتصادي، متكئين على هذه السندات وانفاقها على الاقتصاد ككل لا على إدارة الأزمة وتحسين القطاع الصحي، يتعرض أعضاء منطقة اليورو الآخرون إلى الغرق في دوامة سلبية من انخفاض الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع الديون، وربما الخروج من الاتحاد الأوروبي – والذي سيكون بالطبع أسوأ بالنسبة للجميع.

  • على الصعيد الصحي:

ضخمت أزمة تفشي فيروس كورونا الفجوة بين الشرق والغرب. حيث شعرت حكومات وسط وشرق أوروبا بالذعر بسبب أنظمتها الصحية، التي دامت تعاني من نقص التمويل، وبالتأكيد لم تستطع تحمل الأزمة. تكشف الأزمة أيضًا تأثير الهجرة من الشرق إلى الغرب. فإذا كان نجاح ألمانيا في التعامل مع الوباء يرجع جزئيًا إلى جيش من الأطباء والممرضات المهاجرين، فإن دول وسط وشرق أوروبا لا تملك هذه الإمكانيات للتصدي للوباء فلا ينبغي أن تدفع هذه الدول ثمن سياسة الإغلاق والحد من تصدير مستلزمات طبية ونقل خبراء بين دول الاتحاد الأوروبي وبعضها. هذا بالإضافة أنه صعب بالنسبة لهذه الدول تحمل ديون إضافية مع قطاع صحي هش واقتصاد كلي منكمش.

أما بالنسبة للمساعدات الطبية، لم يظهر تضامن دول الاتحاد الأوروبي بالشكل المأمول. ففي الوقت الذي تحتاج فيه الدول الدعم والوحدة من أجل قهر هذه الجائحة، بدأت بعض الدول العمل من أجل مصلحتها القومية فقط. عندما طلبت إيطاليا من الدول الأعضاء المساعدة كان الرد في البداية هو قرار حظر تصدير معدات الحماية الشخصية مثل الأقنعة. فكانت ألمانيا واحدة من أوائل الدول التي أغلقت حدودها الداخلية تصرفت بشكل مستقل عن الدول الأخرى. ولا تغفل الأعين عن سابقة جمهورية التشيك التي صادرت شحنة من المساعدات الطبية والأقنعة الواقية كانت قادمة من الصين في طريقها إلى إيطاليا. فبالرغم من أن حكومة التشيك أعلنت أن الأمر وقع بالخطأ وتعهد برد الشحنة لإيطاليا، لم يحدث هذا حتى الآن. هذا بالإضافة إلى أنه على مستوى المنظمة لا يوجد نظام مشترك عبر الاتحاد الأوروبي للاختبار أو الحجر الصحي أو عمليات الإغلاق. لم يكن حتى كان في الفترة الأخيرة أن تم أنشاء مخزون أوروبي من المعدات الطبية، من خلال آلية الحماية المدنية التي طلبت إيطاليا مساعدتها في وقت مبكر ووضع الاتحاد الأوروبي 140 مليون يورو في مشاريع بحثية لدعم العلاج والاختبار والبحث عن لقاح COVID-19. كما حظرت المفوضية الشهر الماضي تصدير المعدات الطبية الواقية خارج الاتحاد الأوروبي دون تصريح صريح وأغلقت الحدود الخارجية للكتلة.

  • التأثير على العمالة الأوروبية:

ومن المفارقات أيضا أن حرية حركة العمال أدت إلى عودة الملايين من الأوروبيين الشرقيين إلى ديارهم. عاد حوالي 200 ألف بلغاري فقدوا وظائفهم في أوروبا الغربية إلى ديارهم منذ بداية مارس. من بين السكان العاملين البالغ عددهم 3 ملايين نسمة. هذه نسبة كبيرة، فلك أن تتخيل أن هذا الكم الهائل من العمال يظهرون فجأة في سوق العمل عندما يعودوا إلى بلادهم أو يتقدمون بطلب للحصول على إعانة البطالة. بصرف النظر عن الشك في أنهم يستوردون المرض، قد يصبح العائدون همًا طويل الأمد – وقد يرغب الاتحاد الأوروبي في التفكير في نظام التأمين العمالي المشترك. حيث أنه وفقاً لشركة الاستشارات الإدارية، ماكنزي يواجه حوالي 60 مليون موظف في جميع أنحاء الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة خطر فقد وظائفهم إثر جائحة فيروس كورونا منهم حوالي 55 مليون عامل في مهن عالية المخاطر. وقد يرتفع معدل البطالة من حوالي 6٪ إلى أكثر من 11٪ ويبقى مرتفعاً لسنوات إذا لم يتم احتواء الوباء بسرعة.

الجيوسياسية أم السياسة الواقعية؟

من المثير للاهتمام هو تقديم المساعدة لإيطاليا من قبل دول غير أوروبية، حيث أرسلت كوبا فريقًا من 52 طبيبًا وممرضًا وأرسلت الصين أيضا عدداً كبيراً من الخبراء وأرسلت مصر إمدادات طبية وقائية تضمنت الشحنة حوالي مليون قناع وجه واق. كما أرسلت روسيا الطائرات إلى ايطاليا ناقلة حوالي مئة خبير في علم الفيروسات مع تجهيزات طبية ووحدات تعقيم، سيعملون في مدن إيطالية الأكثر تضرراً من الفيروس. جاءت هذه المساعدات في الوقت الذي تباطأت فيه دول الاتحاد الأوروبي في تقديم المساعدة. وتمثل هذه المساعدات استغلالاً لفرص توطيد العلاقات وربما كانت تنبع من رغبة روسية في رفع العقوبات الأوروبية عنها. بالرغم من ذلك الحديث عن نوايا الجانب الروسي، لا يمكن إنكار أن روسيا وغيرها من الدول التي قدمت يد العون للدول الأكثر تضرراً، تصرفت طبقاً للأعراف وتقاليد التضامن الدولي. بالإضافة إلى ذلك جاءت مساعدات من دول غير متعارف أنها من أكبر المانحين الدوليين مثل أوكرانيا وألبانيا والنرويج وبولندا ورومانيا حيث أرسلوا فرقًا من الأطباء والممرضات لدعم مرافق الرعاية الصحية الإيطالية.

****

رغم أن هناك قناعة بأن الوباء سيصيب وحدة وتعاون الاتحاد الأوروبي بعد مشاهد الانعزال والانغلاق على الذات وأنه لم يكن من المتوقع أن نرى هذه الصورة من عدم التضامن من جانب بعض الدول الأعضاء في التكتل، لكن هذه الأزمة مختلفة في طبيعتها ونطاقها عن كل الأزمات التي مر بها الاتحاد الأوروبي خلال العشر سنوات الماضية. أصاب الوباء كل بقاع العالم، كما أن هذه الأزمة غير مسبوقة على الأقل منذ 100 عام، بالتالي يصعب إدارتها بالنسبة لكل الدول، كما يصعب على الدول أن تقدم خلالها دعماً لدول أخرى. ومن هنا لا يستطيع الاتحاد الأوروبي استيعاب الأزمة اقتصادياً أو تقنياً وأن يلبي طلبات الدول المتضررة. كما أن الوقت لم يكن في صالح الاتحاد للتوصل إلى إجماع أو اتفاق على آلية المساعدة وبناء استراتيجية لتصدي هذه الجائحة ولدعم الدول الأكثر تضرراً. وبالتالي، تركت زمام الأمور في البداية للدول الأعضاء كلٌ يواجه هذه الجائحة منفردا باستخدام الآليات حسب الإمكانيات المتاحة. ولذلك يصعب استشراف تأثير هذه الجائحة على النظام العالمي من دول ومنظمات دولية وإقليمية أو احتمالية تفكك الاتحاد الأوروبي أو غيره من التكتلات، ولكن من المتوقع أن يترنم صوت المشككين في الوحدة الأوروبية (Euro-Skeptics) من جديد حيث أنهم حاصلين على تأييد ضمني من بعض رؤساء الدول الأوروبية وممكن أن يكون التركيز هذه المرة على إغلاق الحدود وإبعاد طالبي اللجوء، بدلاً من ترك منطقة اليورو أو الاتحاد الأوروبي. ولكن نأمل، بعد مرور هذه المأساة الإنسانية المحققة، أن يعمل الاتحاد الأوروبي على بناء آليات للتعاون وإدارة الأزمات أكثر فعالية.

2 comments

  • Mayar taha

    May 12, 2020 at 8:23 pm

    بصراحه حاجه في منتهي العظمه ♥️

    Reply

  • Sheerine

    May 12, 2020 at 8:37 pm

    Keeep going Heidi, v nice piece

    Reply

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

About Synerjies

Synerjies Center for International & Strategic Studies is a trailblazing corporate think tank in the Middle East & Africa region, uniquely blending private initiative for public good. We specialize in guiding decision-makers across governments, international bodies, and corporations through the complexities of today’s rapidly evolving geopolitical and economic landscapes.

Follow Us
AVANTAGEHeadquarters
Organically grow the holistic world view of disruptive innovation via empowerment.
OUR LOCATIONSWhere to find us?
https://synerjies.com/wp-content/uploads/2019/04/img-footer-map.png
GET IN TOUCHAvantage Social links
Taking seamless key performance indicators offline to maximise the long tail.

Copyright by Synerjies. All rights reserved.